نعم الله تعالى تترى علينا، ولكننا لا نعرف قيمتها إلا إذا فقدناها، كما أن نعم الله تعالى لا تعدّ ولا تحصى، ويشعر المرء بقيمة هذه النعم عندما يُحرم منها أو بعضها، وحينها ولات حين مندم، فلقد أجريت جراحة يسيرة في العين، وبعد الانتهاء من الجراحة أخذ الطبيب الماهر الحاذق يملي عليّ بعض التعليمات الوقائية والعلاجية، ومنها:
"لا تركع ولا تسجد لمدة 15 يوماً"، فحاججته ببعض ما لديّ من دراسات سبق الاطلاع عليها وفحواها: "إنّ أفضل طريقة للتخلص من الشحنات الكهربائية الموجبة التي تؤذي الجسم هي وضع الجبهة على التراب أكثر من مرة في اليوم وفي اتجاه مركز الأرض، وأن هذا يؤكد أنّ السجود من الناحية العلمية يساهم في الارتياح وتخفيف الضغوط العصبية والنفسية،" ولكنه أقنعني بوجهة نظره من الناحية الطبية، خاصة في موضوع (العين)، فاستسلمت لقراره، وصبرت يوماً وآخر، وأخذني الشوق إلى السجود، وتزاحمت عليّ النصوص وامتلكني الرعب، إذا ما قرأت قول الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ)سورة المرسلات48؛ ترتجف الضلوع.
وإذا ما سمعت قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)سورة القلم.
إن النفس تكاد أن تنخلع، وسرعان ما تهدئ من روعها وتكرر... هذه ظروف طارئة، ولكن تتلاعب بك الوساوس، ماذا لو مات المرء وهو لا يركع ولا يسجد على الوجه المعتاد؟
وسرعان ما تتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد"رواه مسلم، وحين قال ربيع رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسألك مرافقتك في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: "أعني على نفسك بكثرة السجود"رواه مسلم.
إنّ لحظات السجود فريدة في حياة المرء، تشعر فيها بالقرب من الله تعالى، تقترب من فيض العطاء، تطرق باب السماء، يخسأ الشيطان في نور السجود، ليس للكبر مكان، غرور المرء يغدو كرماد قد تجلى، تتمازج للروح الأفراح، وتتلاشى كل الأتراح.
فالسجود كنز من زاد ووقود، ينفض كل رقود، يوقظ كل ربيع القلب، فكيف لا نشتاق إلى السجود؟
في السجود تخرج دعوات المضطرين، يذوق العبد فيه طعم العبودية، فكم رفعت فيه من دعوات، وبالله كم فرجت بسببه من كربات، وتحققت فيه من أمنيات، وزالت فيه من آهات، واقترب العباد فيه لربهم وخضعوا لخالقهم، وسعدوا بالانكسار بين يديه، لأنّهم يعلمون أنّ العبد كلما ذلّ لخالقه ارتفع، فاللهم لا تحرمنا السجود والقرب منك والتذلل لك، والاستجابة لدعواتنا ونحن سجود بين يديك.
اسم الكاتب: د. مبروك بهي الدين رمضان
مصدر المقال: موقع لها أونلاين